بينما تنزف دماء إخواننا وابنائنا في سوريا، وتلتهب ظهور إخواننا في بورما بسياط التعذيب وسهام التنكيل، وفي غير مكان
يتأذى المؤمنون، قد يصرخ بينهم الشيطان محدثا إياهم عن تأخر الانتصار، وربما يقع حديثه في قلوبهم فتوهن عزائمهم وتخور
قواهم وتقل دوافعهم.
والمؤمن دائما يجعل ربه نصب عينيه، فيلجأ إليه، ويحتمي بحماه، ويتوكل عليه، ويستنصر به، بل يجعل حياته كلها له، آملا في
آخرة سعيدة لا نهاية لها ابدا، ويرجو الباذل من ربه إحدى الحسنيين.
وربما يفجع وقع قطرات الدم على الثرى صدور الثكالى من المؤمنات، ويكسر صراخ الابناء قلوب الجرحى من المؤمنين، إذ
لا يملكون لهم نصرا ولا يستطيعون لهم حماية.
لكنهم عندما يعلمون أن الله سميع لهم، عليم بما يدور حولهم، رحيم بأبنائهم، يختار لهم الخير والأفضل، فتنير بصائرهم برؤية
الحقائق ويطمئنون عند تذكر القدرة العظمى.
فقطرات دماء الصغير خلود له في جنات عدن، وجراحات الثكالى رفعة لهم في الدنيا والآخرة، وآلام المعذبين في الزنازين
ذخر لصباح يوم جديد قريب.
إنهم عندما يعلمون أنهم جند الله، سيعلمون أنهم حتما في رعايته وأمنه، وفي حفظ ملائكته الكرام الكاتبين، فلتحيطهم السكينة،
ولتغشاهم الطمأنينة، وليملكهم الرضا بالقضاء، وليدعمهم الصبر في البلاء.
والله سبحانه قد وعد بنصرة رسله والتابعين لهم فقال: }إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد{،
وقال سبحانه: }وإن جندنا لهم المنصورون{..
ووعده سبحانه وعد حق وصدق لا يتخلف أبدا، فيجب أن يوقن المؤمنون في كل مكان بذلك الوعد الحق، ويجب ألا ييأسوا ولا
يقنطوا ولا يقعدوا ولا يكسلوا، بل يمارسوا العمل الدؤوب والبذل المستمر سائلين الله النصرة والعون والتوفيق.
والنصر للمؤمنين لا يتخذ صورة واحدة هي صورة النصر بالغلبة المباشرة، ودحر العدو كما يظن البعض، بل قد تكون له
صور متعددة ومتكاثرة، فثبات المؤمنين على مبادئهم وقيمهم رغم الزلازل هو نوع من النصر وانتشار فكرتهم نوع من النصر،
بل إن نيل الشهادة هو أيضاً نصر بذاته.
ولو كان الأمر كما يظن هؤلاء بأن النصر ماله غير تلك الصورة في النصر المباشر بالغلبة ودحر عدوهم، لكان كثير من
أنبياء الله صلوات الله عليهم محكوما عليه بالإخفاق، وحاشا لأنبياء الله الكرام أن يوصفوا بهذا، رغم قلة المؤمنين بدعوتهم، فهذا
نوح عليه السلام يدعو قومه ويمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ورغم هذا المكث الطويل فإنه لم يؤمن من قومه إلا قليل،
قال تعالى: }حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن
وما آمن معه إلا قليل{، وهذا النبي يحيى عليه السلام قد قتلته يهود، وهذا النبي عيسى عليه السلام قد رفعه الله إليه، وغيرهم
كثير وكثير.
وكذلك كان أمر كثير من الأنبياء فإنهم يحشرون يوم القيامة، ومع بعضهم الواحد والاثنان والثلاثة، وبعضهم لا يكون معه أحد
من المؤمنين. أخرج الترمذي من طريق ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ولما أسرى النبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر
بالنبي والنبيين ومعهم القوم، والنبي والنبيين ومعهم الرهط، والنبي والنبيين وليس معهم أحد».
لست أكتب هذا مُيئساً لهم، ولا مقنّطاً من الانتصار، فالنصر آت لا محالة وهو وعد الله لا يخلف الله وعده، ولكن نظرتنا نحن
القاصرة قد تستعجل الساعات، ولله حكمة بالغة لا ندركها نحن بحال.
وقد جرح المؤمنون من الصحابة في أحد، وجرح النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكسرت أسنانه وشج رأسه، وقتل أحب
أحبابه، لكنه علم أنه ابتلاء وتعليم، وتصبير وتربية، فكان النصر بعد ذلك متتاليا عميما.
كذلك فإن الله سبحانه قد علم رسوله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى عند أمره بالعمل ولم يطالبه بالنتيجة، فقال: }فإن أعرضوا
فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ{، وقال: }فهل على الرسل إلا البلاغ المبين{، فأمر الهداية بيد الله تعالى، وهو
القائل: }إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء{، كما أمر الانتصار الظاهر والغلبة وإهلاك العدو بيد الله.
وقد قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصة غلام الأخدود، وكيف أنه بذل نفسه لتنتصر دعوته، فلما صدق في ذلك وفاضت
روحه قضى الله بالانتشار لدعوته، بل إن هناك معنى آخر في قصة الأخدود؛ وهو عذاب القوم الذين آمنوا بعد الغلام وإلقاؤهم
في الأخاديد، وثباتهم في ذلك، وكأنهم قد وعوا الدرس جيدا، فعلموا أن النتائج بيد الله، وأن عليهم الثبات إلى النهاية.
كذلك فقد بين القرآن الكريم أن النصر إنما يتأتى لأهل الإيمان عند تمام التسليم له، وهو حال شعورهم بالتضييق والتعب، بل
لعل الإشارة القرآنية تدل على أهمية وجود تلك المرحلة الوسيطة بين الدعوة والاستجابة، وهي مرحلة الشدة التي قد يمر بها
الدعاة، وهي دلالة قوله تعالى: }وظنّوا أنهم قد كُذبوا{، والوصول إلى هذه المرحلة وسيط بين الدعوة وبين المرحلة الثالثة }
جاءهم نصرُنا{، وإلى ذلك يشير الإمام ابن كثير إذ يقول: «يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه، كقوله تعالى: }وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا متى نصر الله{.